الإسلام هو دين الرحمة ، وما أرسل الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – إلا
رحمة للعالمين ، وما أنزل سبحانه الرسالة إلا رحمة للمؤمنين
قال تعالى : " يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما فى
الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين " يونس 57
والله أقرب إلى عباده من وريد أحدهم وأرحم بهم من أمهاتهم اللائي ولدنهم ،
فعن عمر بن الخطاب – رضى الله عنه – قال : قدم رسول الله بسبي ، فإذا امرأة من
السبي تسعى قد تحلب ثديها ، إذا وجدت صبياً فى السبي أخذته فألصقته ببطنها فأرضعته
، فقال رسول الله : " أترون هذه المرأة طارحة ولدها فى النار ؟ " قلنا :
لا والله وهي تقدر ألا تطرحه ، قال : " فالله تعالى أرحم بعباده من هذه
بولدها " أخرجه البخاري
والرحمة التى يتراحم بها الناس فى الدنيا إنما هي من الله ، ففي الحديث
الصحيح : " جعل الله الرحمة مائة جزء، أنزل فى الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك
الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه "
وحض الإسلام على الرحمة وجعلها ثوابها بمثلها ، ففي الحديث الصحيح الذى
رواه أبو داود والترمزي قال رسول الله : " الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من
فى الأرض يرحمكم من فى السماء "
كما جعل جزاء الشديد القاسي متبلّد الحس بمثل صنيعه ، قال رسول الله – صلى
الله عليه وسلم – " لا يحم الله من لا يرحم الناس " متفق عليه
وفى الحديث الأخر : " من لا يرحم لا يُرحم " ، قال ابن بطاّل -
رحمه الله – : " فى هذا الحديث الحض على استعمال الرحمة للخلق ، فيدخل المؤمن
والكافر، والبهائم المملوك فيها وغير المملوك، ويدخل فى الرحمة التعاهد بالإطعام
والمساعدة فى الحمل وترك التعدى بالضر " .
ودلّ على ذلك حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – فعن ابن مسعود عن النبى
قال : " لن تؤمنوا حتى تراحموا " ، قالوا : يا رسول الله كلنا رحيم ،
قال : " إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة " رواه الطبراني
ومن الناس من يتحجج بقساوة الناس وظلم الحكام ، فيتجرد من الرحمة ويخالف
فطرته التى خلقه الله عليها ، ويعيشون فى الدنيا بمبدأ من لن أظلمه سيظلمني !! ،
ومن سأحنو عليه سينقلب إحساني له نقمة عليّ !!
وهؤلاء ما قسوا إلا لنقص إيمان عندهم ، فالمؤمن القوي هو الرحيم على
الضعفاء شديد على الظلمة ، فالرحمة ليست حناناً لا عقل له ، والقسوة لا ترتبط
بتحقيق عدل أو إنصاف .
ومن رحمة الحيوان رحمة المرأة البغيّ بالكلب، ففى الصحيحين عن أبي هريرة ،
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " بينما كلب يطيف بركية كاد يقتله
العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فسقته فغُفر لها به "
ورأيت تلك الرحمة فى فترة استدعائي فى الجيش ، فقد قابلت ولد يزيد عن الثمانية
عشر قليلاً يدعى عديل ، وقبل أن أصف فعله أعطيكم وصفاً بسيطاً ليتضح لكم المقال .
عديل متوسط الطول ، شمس الصعيد تركت أثرها على وجهه ولم يغير لهجته
الصعيدية كما فعل غيره ، فهو ليس إذا من الشباب الذين تربوا تحت كنف " بابي
ومامي " ، وصديق لكل الكتيبة ، فليس وحيداً يحتاج إلى صحبة !!
رأيته وقد صاحبه جروين صغيرين ، وذلك الأمر غريب فى الجيش لمن يعلم ، وقد
أخذت الكلاب الصغيرة تتمسح فى قدميه جيئةً وذهاباً ، فلما سألت واستقصيت قالوا :
أنه وجدها وحيدة فى مكان ما فى الصحراء فجلبها إلى الكتيبة ، فأطعمها وأحسن
إليها ، فراقبته فإذا به يفعل أكثر من ذلك ، فإنه يحممها ويطعمها من كانتين
الكتيبة ما لذ وطاب من أرز بلبن وبيض وغيره ، مما جعله يفتح تقريشة خاصة بالكلاب .
ولمن لا يعلم فالتقريشة فى الجيش ، عندما تنتهى أموالك تشترى أشياء فإذا
جاء راتبك للشهر القادم خصمت منه ما اشتريت ، حتى أن الكثير لا يجد له راتب فى أخر
الشهر !! ، أى أن المرء فى الجيش فى أمس الحاجة لماله لأنه يمكن أن يمكث لا يعود
لبيته شهوراً، فما الذى يدفع هذا الولد لفعل هذا غير شفقة ورحمة سكنت قلبه وملئت
عليه جوانبه ؟!!
ارحموا أنفسكم من استرسالها فى الغيّ والمعاصى ، وارحموا رحمكم وصغاركم ونسائكم بالصلة والحب ، وارحموا الخدم بالترفق بهم ، وارحموا الحيوان والدواب بالإحسان إليها أو الكف عن أذاها ، ولا تقصر الرحمة على من تعرف فما كان الرفق فى شئ إلا زانه وما نُزع من شئ إلا شانه ، وإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف .