لدينا مشاكل جمة، لكنها لا تُقارن حتمًا بمشاكل الشعب السوري العزيز. كلما كتبت شاكيًا الأحوال أو أكاذيب الإعلام أو تدهور الخدمات والمرافق في مصر، جاءتني رسالة من صديق سوري – أرسلها بشكل غامض ما – من قلب الجحيم مباشرة، يقول لي فيها إن ما نعانيه هو ضرب من التدليل الزائد.
ولهذا يعتنق عدد لا بأس من المصريين شعار: "فلنتحمل. هذا أفضل من أن نصير سوريا أو العراق أو ليبيا". السؤال هو ما الذي أوصل سوريا وليبيا والعراق إلى هذا؟ هل هي الثورات، أم الطغاة الذين خربوا البلاد بشكل منظم لعشرات السنين ولم يسمحوا بأي معارضة، ثم عندما رحلوا تفكك كل شيء؟ ولو لم يكن القذافي ديكتاتورًا لما بدد ثروة بلاده في مغامرات مجهولة في أفريقيا ونيكاراجوا، ولو لم يكن صدام طاغية لما ورّط بلاده في حرب خاسرة تلو الحرب، ولما غزا دولة مستقلة هي عضو في الجامعة العربية مثل الكويت، ليضع عنقه ووطنه في أنشوطة المشنقة. هل كان من الحكمة الحفاظ على كل هؤلاء الطغاة ليمارسوا النهب ولننعم نحن بالاستقرار؟
صديقي السوري طبيب من أسرة محترمة مستقرة ماديًا، فضلت البقاء في حلب حيث الجذور، ولعل التفسير يكمن في سطور قرأتها في إحدى قصص ستيفن كنج. كان البطل يسأل رجلاً يهوديًا مسنًا: "عندما شعرتم أن هتلر ابن الـ (...) ينوي حرقكم وذبحكم فلماذا ظللتم حيث أنتم؟ لماذا لم تفروا بالله عليكم؟"
سال الدمع من عيني اليهودي المسن وقال: "البيانو.. !". نظر له البطل في دهشة فأردف الرجل: "معظم اليهود لديهم بيانو في المنزل.. عندما يكون لديك بيانو تجد من الصعب جدًا أن تنتقل لبيت أو بلد آخر !". المثال منحاز لليهود طبعًا، لكنه يتسع ليشمل أشياء أكبر: الذكريات.. الأصدقاء.. الجيران.. الأماكن.. كل هذه تلعب دور البيانو لدى أسر سورية آثرت البقاء.
أرسل لي صديقي الخطاب التالي الذي وجدت من الأمانة أن أنشره كاملاً، وهو ينقل بشكل دقيق الوضع في حلب حاليًا:
"أعلم أنني كنت قد قطعت على نفسي عهدًا بألا أزعجك بأخبار حلب ومأساتها (ولا أعرف لماذا يعتقد ذلك)... ولكنني أعتقد أنك الوسيلة الوحيدة لإيصال ما نحن فيه.. فما من وسائل إعلامية - من الطرفين - تذكر حلب ومأساتها على الإطلاق.
لا أعرف إن كنت تعرف تمامًا موقع حلب.. حلب هي المحافظة التي تقع شمالي سوريا وهي على بعد كيلومترات قليلة من الحدود التركية, وقد كانت فيما مضى عاصمة الاقتصاد السوري...
منذ حوالي بداية 2012 انقسمت حلب المدينة إلى قسمين، قسم سيطرت عليه المعارضة وتنهال عليه البراميل بشكل يومي، والدمار والموت يتخذان منه منزلاً.. وقسم بقي مع الدولة السورية - النظام - وهو الجزء الحيوي من المدينة حيث توجد الجامعة العريقة والمصارف والمشافي التي ماتزال قادرة على العمل...
أهالي حلب تمزقوا بين الطرفين والكثير منهم خسر أهله ومنزله، واضطر إلى النزوح إلى النصف الآخر، وانقسمت المدينة إلى جزئين لا سبيل إلى الوصول من أحدهما إلى الآخر إلا عبر المرور عبر محافظة حماة ( أي بمغادرة المدينة تماما والالتفاف عبر الطريق الدولي لتدخل إليها ثانية عبر نصفها الآخر).
بقيت حلب النظام - النصف الثاني من حلب - مرتبطة بدمشق وباقي مناطق سيطرة النظام عبر طريق طويل ومحفوف بالمخاطر يُدعى باسم طريق خناصر, وعبره تصل المحروقات والأغذية والأدوية من الدولة المركزية، وبسلوكك له يمكنك السفر إلى دمشق لتستقل إحدى الطائرات التي ما تزال تزور مطارها المدني لتسافر إلى أي بلد يؤويك من هذا الجحيم...
طبعا لن أتكلم عن مآسي المياه المقطوعة والكهرباء التي لا تزور حلب إلا ساعة في الأربع والعشرين، ولا عن "النت" الذي انقطع عنها منذ 7 أشهر... لأنك ولا شك صرت تمل هذا الحديث..
ما أحب أن أنوّه إليه - وهو الأمر الذي أعتقد أنك لم تسمع عنه بعد - هو أن طريق خناصر قد انقطع... حيث هاجمت داعش عدة نقاط على الطريق - الذي هو كما قلت لك أشبه بخيط رفيع طويل يمكن قطعه في أي نقطة - وتسبب هذا في انقطاع حلب النظام ومحاصرتها تمامًا... ونحن الآن في اليوم الثامن لهذا الحصار.
البنزين نفد من محطات الوقود، والأمبيرات - المولدات الكبيرة - صارت مضطرة لتوفير المحروقات وعدم تقديم الكهرباء لأكثر من 6 ساعات يوميًا... أختي التي تتمتع بالجنسية الإنجليزية لم تعد تستطيع هي وابنتها السفر إلى إنجلترا، دعك من تأخر موعد مناقشة رسالتها - سوف تحصل على شهادة ماجستير في الأمراض الجلدية - بسبب عدم تمكن وصول دكاترة القسم بسبب انعزال حلب وقطع تواصلها مع العالم.
المياه توقفت عن الضخ بسبب انقطاع التيار الكهربائي عن محطات الضخ من جهة وعدم توفر الديزل لكي يستخدم كبديل في عملية الضخ....
الأدوية توشك على النفاد ولا سبيل لوصول المزيد..
ولعلي لا أبالغ حين أقول إن أكثر ما يمكن أن يثير الرعب هو عندما تفتح مذياع سيارتك فتسمع إذاعة خاصة بداعش تقوم بنشر أفكار غريبة عن مجتمعنا السوري، السمح، المتعايش... هذا ما يحصل فعلا.
لا أعرف إن كنت قد تمكنت من إيصال جزء من المعاناة... ولكن أتمنى منك التنويه إلى الأمر، فالكل صامت ويترك معاناة الشعب.. هذا الشعب الذي بدأ يكره الجميع ويكره نفسه ويكره الحياة...
أرجوكم ارفعوا الحصار عن حلب....".
بعد أيام أرسل لي رسالة تقول:
"ﺷﺎﻫﺪ ﻋﻴﺎﻥ في ﺣﻠﺐ: ﻟﻢ ﺗﺘﻤﻜﻦ ﻭﺭﺷﺎﺕ إﺻﻼﺡ ﺍﻟﻜﻬﺮﺑﺎﺀ من الدﺧﻮﻝ ﻟﻤﻜﺎﻥ ﺍﻟﻌﻄﻞ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﻟﻴﺴﺘﻤﺮ ﺍﻧﻘﻄﺎﻉ ﺍﻟﻜﻬﺮﺑﺎﺀ ﻭﺍﻟﻤﺎﺀ لليوم 11 ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﻮﺍﻟﻲ ﻋﻦ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺣﻠﺐ.
شبكة (ﺣﻠﺐ_ ﻧﻴﻮﺯ): ﻗﻮﺍﺕ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺗﺴﻴﻄﺮ ﻋﻠﻰ ﻛﺎﻣﻞ ﻃﺮﻳﻖ (ﺧﻨﺎﺻﺮ - ﺃﺛﺮﻳﺎ) ﺑﻌﺪ ﺍﺷﺘﺒﺎﻛﺎﺕ ﻣﻊ ﺗﻨﻈﻴﻢ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ، ﻭﺳﻴﺘﻢ ﺇﻋﺎﺩﺓ ﻓﺘﺢ ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ ﻟﻌﺒﻮﺭ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﻴﻦ ﺍﻋﺘﺒﺎﺭﺍً ﻣﻦ ﺻﺒﺎﺡ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﻐﺪ ﺍﻟﺨﻤﻴﺲ."
هذا آخر خطاب وصلني من صديقي السوري. أرسله بمعجزة مع انقطاع الإنترنت، ومن الغريب وسط هذا الجحيم أن يقلق لتأخر مناقشة رسالة شقيقته.. لكنها الحياة. لا أعرف كيف يمكنني مساعدته ولا كيف لكلمات أن تفعل أي شيء. لكني فعلت ما بوسعي.
تقوم الثورات بتفكيك مسامير الآلة التي تشكل النظام على أمل جمعها من جديد، وهنا تأتي الثورات المضادة لتركل المسامير وتضيعها وتبعثرها. هكذا يستحيل أن تعود الأمور لحالتها السابقة أو تصير أفضل. تصير الحياة أسوأ بمراحل مما كانت قبل الثورة. ينهال البعض باللوم على الثورة التي بدأت هذا الجحيم، بينما ينهال البعض الآخر على الثورة المضادة التي حرقت البلاد. لو لم تقم الثورة في ليبيا لظل القذافي يحكم حتى اليوم ويبشر بنظرياته والكتاب الأخضر والديمو – كراسي، ولظلت البلاد في سلام خمول وغيبوبة.. ولو لم تقم الثورة المضادة بعد الثورة لصارت ليبيا دولة مدنية حديثة. المؤكد لدى الجميع أن ليبيا – وكل دول الرييع العربي بما فيها مصر – كانت أفضل حالاً. أعتقد أن تونس هي الدولة العربية الوحيدة التي اجتازت تلك الغابة الشائكة.
نُشر المقال بتاريخ 11 نوفمبر 2015