نهى الله عن التفرق
والإختلاف وأمر بالإستماع والإئتلاف على طاعته سبحانه فقال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ
إِخْوَاناً)، وقال جل وعلا: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا
وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ)، وقال سبحانه : (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ
رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) ، والاجتماع لا بد له من
قيادة فلا اجتماع إلا بإمامة ولا إمامة إلا بسمع وطاعة فلذلك كان تنصيب الإمام
فريضة في الإسلام لما يترتب عليه من المصالح العظيمة؛ فالناس لا يصلحون بدون إمام
يقودهم وينظر في مصالحهم ويدفع المضار عنهم، قال الشاعر :
لا
يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا
سراة إذا جهالهم سادوا
الـبـيـت لا يبنى إلا على
عـمـد ولا عماد إذا لم ترسى أوتاد
فإن تجمع أوتاد وأعمدة
وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا
ولهذا لما توفي الرسول - صلى الله عليه وسلم -
بادر الصحابة بتنصيب إمام لهم قبل أن يتجهوا إلى تجهيز الرسول لدفنه لعلمهم بضرورة
هذا الأمر وأنه لا يصلح وقت ولو يسير إلا وقد تنصب الإمام للمسلمين .
ولما كان الأمر بهذه الأهمية، فإن جمهور أهل العلم من
أهل السنة والجماعة يتعاملون مع قضية الإمام وطريقة تنصيبه بعملية وواقعية ،
فليسوا جامدين جمود الخوارج والمعتزلة الذين يرون أن الإمامة لا تنعقد مطلقاً إلا
بالبيعة الخالية من الإكراه، وليسوا كالرافضة فى قصر التنصيب على النص ؛ بل إنهم
يرون أن الإمامة تنعقد بكل طريق لا يخالف شرع الله وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم
– حسب ما تقتضيه مصلحة كل أناس فى كل مكان وزمان .
وتكاد طرق تنصيب الإمام تنحصر فى أربع :
أولاً : الإختيار والبيعة من أهل
الحلّ والعقد
أهل الحل والعقد هم العلماء
والوجهاء ورؤوس الناس، وللعلماء بحوث فى شروطهم وطرق اختيارهم وأهم وظائفهم، ومنها
اختيار إمام المسلمين نيابةً عن الأمة وفق شروط ومعايير الإمامة، فإذا
ما بايعه أهل الحلّ والعقد ثبتت له بذلك ولاية الإمام، ولزمت طاعتُه، وحَرُمت
مخالفتُه فيما يأمر به وينهى بالمعروف، وليس من شروط ثبوت الإمامة والطّاعة أن
يكون كلُّ مسلم من جملة المبايعين له
قال الشّوكانيّ -رحمه
الله-: طريقها أن يجتمع جماعةٌ من أهل الحلّ
والعقد فيعقدون له البيعة ويقبل ذلك، سواء تقدّم منه الطّلب لذلك أم لا، لكنّه إذا
تقدّم منه الطّلب فقد وقع النّهي الثّابت عنه-
صلى الله عليه وسلم - عن طلب الإمارة من حديث عبد الرحمن بن
سمرة قال: قال النبي-صلى الله عليه وسلم -
:«يَا
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ
أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ
غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا أخرجه البخاري ومسلم .
فإذا بويع بعد هذا الطّلب انعقدت ولايتُه وإن أَثِمَ بالطّلب،
فإذا ثبتت إمامته وجبت على المسلمين طاعتُه، وليس من شرط ثبوت الإمامة أن يبايعه
كلّ من يصلح للمبايعة، ولا من شرط الطّاعة على الرّجل أن يكون من جملة المبايعين،
فإنّ هذا الاشتراط في الأمرين مردودٌ بإجماع المسلمين: أوّلهم وآخرهم، سابقهم
ولاحقهم».
وبهذا الطّريق تمّت
مُبَايَعة أبي بَكرٍ الصّـدّيق، فثبتت خلافته بالبيعة والاخـتيار في سقيفة بني
ساعـدة.
قال الإمام الماوردي- رحمه الله-: اختلف العلماء في عدد من تنعقد به
الإمامة منهم، على مذاهب شتى. فقالت طائفة: لا تنعقد إلا بجمهور أهل الحل
والعقد من كل بلد، ليكون الرضا به عاماً، والتسليم لإمامته إجماعاً،
وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة باختيار من حضرها، ولم ينتظر ببيعته
قدوم الغائب عنها .
ثانياً : ثبوت
البيعة بتعيين وليّ
العهد
وذلك بأن يعهد وليّ الأمر إلى من يراه أقدر على مهمّة حماية
الدّين وسياسة الدّنيا من أهل الحزم والديانة ،
فيخلفه مِن بعدِه، فإنّ بيعته على الإمامة تلزم بعهدِ مَن قبله، كمثل ما وقع مِن
عهدِ أبي بكرٍ لعمر، فإنّ الصّدّيق- رضى الله عنه - لمّا حضرتْه الوفاة
عَهِد إلى عمر- رضى الله عنه - في الإمامة، ولم ينكر ذلك الصّحابة ،
وقد اتّفقت الأمّة على انعقاد الإمامة بولاية العهد، وقد عَهِدَ معاوية إلى
ابنه يزيد وغيرهم .
قال الخطّابيّ: «فالاستخلاف
سنّةٌ اتّفق عليها الملأ من الصّحابة، وهو اتّفاق الأمّـة لم يخـالف فيه إلاّ
الخـوارج والمـارقة الذين شقّوا العصا وخـلعوا ربقة الطّاعة».
ثالثاً : ثبوت
البيعة بتعيين جماعة تختار وليّ
العهد
وذلك بأن يعهد وليّ الأمر الأوّل إلى جماعةٍ معدودةٍ تتوفّر
فيها شروط الإمامة العظمى، لتقوم باختيار وليّ العهد المناسب فيما بينهم يتوالَوْن
عليه ويبايعونه، كمثل ما فعل عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه - ، حيث عَهِدَ إلى
عثمان وعلي وطلحة والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنهم،
فاختاروا من بينهم أفضلهم عثمان بن عفان- رضى الله عنه - فبايعوه ولزمت بيعته
لجميع المسلمين.
رابعاً : ثبوت البيعة بالقوّة والغلبة
والقهر
إذا غلب على النّاس حاكمٌ بالقوّة والسّيف حتّى أذعنوا له واستقرّ
له الأمر في الحكم وتمّ له التّمكين، صار المتغلّبُ إمامًا للمسلمين وإن لم يستجمع
شروط الإمامة، وأحكامُه نافذةٌ، بل تجب طاعته في المعروف وتحرم منازعته ومعصيته
والخروج عليه قولاً واحدًا عند أهل السّنّة، ذلك لأنّ طاعته خيرٌ من الخروج عليه،
لِما في ذلك من حقن الدّماء وتسكين الدّهماء، ولِما في الخروج عليه من شقّ عصا
المسلمين وإراقة دمائهم، وذهاب أموالهم وتسلُّطِ أعداء الإسلام عليهم، فإن عبد
الملك بن مروان خرج عَلَى ابن الزبير، فقتله واستولى عَلَى البلاد وأهلها حتَّى
بايعوه طوعًا وكرهًا، فصار إمامًا يَحرم الخروج عليه.
قال الإمام أحمد -رحمه
الله-: ومن خرج على إمامٍ من أئمّة المسلمين
وقد كان النّاس اجتمعوا عليه وأقرّوا له بالخلافة بأيّ وجهٍ كان بالرّضا أو
الغلبة؛ فقد شقّ هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ،
فإن مات الخارج مات ميتة جاهليّة، ولا يحلّ قتال السّلطان ولا الخروج عليه لأحدٍ
من النّاس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السّنّة والطّريق.(
ويقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميّةَ - رحمهُ اللهُ تعالى
-:" والقدرةُ على سياسةِ الناسِ إمّا بطاعتِهم لهُ، وإمّا بقهرهِ لهم، فمتى
صارَ قادراً على سياستِهم بطاعتِهم أو بقهرهِ، فهو ذو سلطانٍ مطاعٍ إذا أمرَ بطاعةِ
اللهِ" .
هذه تكاد تكون كل الطرق الشرعية لاختيار
الحكام، وهذه الطرق بعضها أولى من بعض ، والحكام درجات فيها ،
فمنهم من يأتى على رأس القائمة وهو الحاكم
الذى اختاره أهل الحل والعقد، وهكذا تنزلُ الدرجاتُ حتى
تتناهى إلى الغلبةِ والقهرِ، وهي أضعفُ طرقِ التنصيبِ، وإنّما قبلتْ بها الشريعةُ
من بابِ التعاملِ مع الواقعِ وحقنِ الدماءِ وضبطِ الأمورِ، خروجاً من الفتنةِ،
وشرعتْ في أثناءِ ذلك كلّهِ أمْرَ ذلك الحاكمِ المستبدِ بالمعروفِ والطاعةِ،
ونهيهُ عن المُنكرِ والبغْي، وجعلتْ ذلك من أعظمِ أنواعِ الجهادِ في سبيلِ اللهِ
تعالى، فللفردِ المسلمِ أن يقاومَ الحاكمَ المستبدَ المتسلّطَ بنفسهِ وروحهِ
ويجودُ بها، لكن لا يحلُّ لهُ أن يدفعَ بالأمةِ في مواجهتهِ إلا إن علِمَ يقيناً
قدرتهم على التغلّبِ عليه والعودةِ بالحكمِ إلى الجادةِ، فحينئذٍ يكونُ للأمرِ
حكمٌ آخر.
أمّا انعقاد الولاية أو الإمامة بأساليب
النُّظُم المستوردة (الانتخابات) الفاقدة للشّرعيّة الدّينيّة - فبغضّ النّظر عن
فساد هذه الأنظمة وحكمِ العمل بها- فإنّ منصب الإمامة أو الولاية يثبت بها ويجري
مجرى طريق الغلبة والاستيلاء والقهر، وتنعقد إمامة الحاكم وإن لم يكن
مستجمِعًا لشرائط الإمامة، ولو تمكّن لها دون اختيارٍ أو استخلافٍ ولا بيعةٍ.
و
لا يشترط فيه أن يكون إمامًا عامًا لجميع المسلمين في الدنيا، قال ابن تيمية
الحراني -رحمه الله-: “والسُّنّة أن يكون للمسلمين إمام واحد والباقون نوّابه،
فإذا فُرِضَ أنّ الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها وعجز من الباقين أو غير ذلك
فكان لها عدة أئمة لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود ويستوفي الحقوق
"
ومن أعظم تلك الحقوق السمع والطاعة فى المعروف
لقوله – صلى الله عليه وسلم – : " إنما الطاعة فى المعروف " وقوله-صلى الله عليه وسلم - :
" لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق " .
أسأل الله أن يصلح حال المسلمين ويهديهم إلى
التمسك بشرعه ودينه القويم.