ما يجعله يذهب إلى
عمله في تلك الوحدة الصحية النائية ... ويصل إلى هناك بركوب القطار والأتوبيس
والتوكتوك ويسير قليلاً
ويبتسم لنكات رئيسه
اللزج ... ويصادق زملاء لا يود رؤية وجوههم
ليتقاضى في نهاية
الشهر بضع جنيهات بعد تطبيق الكادر !!ِ
ما يضطره لفعل ذلك
وزيادة ... هو أنه لا يتكلف عناء الإعتناء بشئ ...
مرضاه من أهل القرية
الفقراء الأميين الذين لا يأبه أحد لهم، فلو قتل أحدهم بتشخيصه، لن ينتبه أحد
لذلك... ولربما قال أحدهم :
" لو أخذ
الأدوية التي كتبها الدكتور مجدي لما أصابه ما أصابه "
" مجدي "
هو اسمه الذي طالما مقته ، فهو إسم لا يُعرف ماهية صاحبه ، فهناك أسماء بمجرد
نطقها تعرف حالة صاحبها النفسية وديانته والطبقة الإجتماعية التي ينتمي إليها ...
أما اسمه فهو مطاط يشع لزوجة كنكات رئيسه .
لم يذكر أن رئيسه قد
عاتبه مرة عن حضوره المتأخر ، ولا انصرافه المبكر ، ولا غفواته بين ذلك .
لا يعتني بمظهره فوق
ما يجعله نظيفاً ، ولا يلقي بالاً بما تبقى من شعيرات رأسه على أي جانب تميل ، ولا
يشغل فكره بزميلاته في العمل ... وكان قد واجه مشكلة دائمة طوال حياته في التعامل
مع من يكتسبن لفظ " زميلات " !!
ولكنهن لا يزدن عن
عفاف الممرضة البدينة التى تنهج لمناولتك بعض الشاش من على منضدة مجاورة ، ومدام
سماح الإدارية العجوز التي بلغت المعاش إلا قليل ، وهند عاملة النظافة التي تغرقكك
في مشاكل أطفالها
حتى كان أحد أيام
الثلاثاء ... يومه المفضل ... أو كان كذلك ... دائماً ما كان يشفق على الثلاثاء
ويشعر بمقت الناس له، ولم يحدث فيه شئ يجعل بينهما عداء قبل ذلك اليوم ... لتصير
الأيام كلها بلا لون ... بلا حالة مزاجية ... بلا فراغ للرأس.
جاءت هي ... سلوى ...
الطبيبة المعاونة له في الوحدة .
ليقل أحدهم إلى هؤلاء
الذين يوزعون الأطباء على وحداتهم ، أن يراعوا إرسال مثل تلك الطبيبة إلى شارع
الهرم . فمكانها الطبيعي على إحدى الأرصفة بجوار ملهى ليلي بعباءة سمراء ملساء
تكشف عن تضطاريس جسدها .
سلوى طبيبة حديثة
التخرج قمحاوية تميل إلى الإسمرار بعيون
سوداء ووجه غير معين ، وإنحسار طرحة تدعي كذباً شعراً أملساً ، وأحمر شفاه صارخ صُنع خصيصاً للبغايا، وقد
وُضع بطريقة غير محترفة في محاولة للهروب بذلك من فئة صُنع لها .
وحمالة صدر تبوء بالفشل في تكوين صدر من لاشئ، وملابس ضيقة
يسترها بلطو طويل ينم عن تردد بين العفاف و التبرج.
في اليوم الأول أحب
أن يضع الأمور في نصابها الصحيح، فهو لا يرغب فيها وهي لن ترغب فيه، فأخبرها أنها
في مقام أخته الصغرى.
ولكن ذلك لم يمنعه من
محاولة أن يكون الرجل اللطيف المحبوب، فتلك شهوة الرجال الخالدة في استمالة قلوب
النساء ... ولكنها قابلت ذلك بتجهم حصري له ، في حين أن الغمزات والضحكات وصلت إلى
حامد فرد الأمن.
يكره موقفها المتردد
منه، فهي لا تحبه، ولا تبغضه، فكانت كما وصف العراب : " لا تعطيه أي شئ ...
وفي الوقت نفسه لا تجعله يقنط ويرحل "
جعله ذلك يلعن حظه
العاثر مع النساء ... حتى الساقطات تنام مع الكلاب في الأزقة، و يدعين الشرف عنده
وهو لا يرغب فيهن أصلا ... سوى أن يشعر أنه ما زال يعيش، ولا ينقصه طرف .
خرج في ذلك اليوم
مبكراً كعادته ، وصرير أسنانه كعجلات قطار على قضبانه من الغيظ ، وود لو أكل
أصابعه لا أن يعض أنامله ... ولا يدور بخلده إلا شئ وحيد ... كيف أترك تلك الوحدة
التى لم أعد أهنئ فيها بعدم الإعنتاء ؟!!
أشهراً تمر ... ويأتي
ثلاثاء أخر ... يفيق من غفوته على زغرودة
- عقبالك يا دكتور
مجدي، خد شوكولاتة
- يتناول إثنان ...
إيه يا هند، جوزك إتجوز عليكي ؟
- تف من بقك يا
دكتور، الدكتورة سلوى حتتجوز، وقدمت استقالة عشان ح تسافر برة لجوزها ... والله
والله عروستك عندي يا دكتور.
- ليه يا بت ، هو حد
قالك إني كنت مخمن على الدكتورة سلوى ولا إيه ؟!!
- أنا قلت حاجة ...
أنا بس عاوزاك مبسوط ... خش شوف صورة عريسها على الفيس ... حلاوة إيه وطول إيه
وعرض إيه ... وشعر إيه ( مع حركة فم الأنثى المصرية على الجانبين في سرعة )
أثاره كلام العاملة
... ليدخل ذلك الموقع الذي يكرهه، وما صنع به حساباً إلا ليشعر أنه مواكب للتقدم
... ويدخل حروف اسمها ... ليرى صورتها مع رجل هو الرجل المثالي لكل إنثى !!
ثم أخذ جولة أخرى في
بحر رسائله المهملة ... ليجد منها رسالة قديمة
" دكتور مجدي
أنا عارفة إنك ممكن
تبصلي بصة مش كويسة
بس أنا دماغي متفتحة
وماعنديش مانع
أقولك إني معجبة بيك
وبأخاف أكلمك وأهزر
معاك في الشغل ... عشان ماتلخبطش ويبان عليا
لو انت كمان عندك نفس
الشعور ... يا ريت تفاتحني في الموضوع
لو لأ ... يبقى كأن
الرسالة دي ماتبعتتش "
الثلاثاء 3 / 11 /
2015
نظر في الساعة قبل أن
يغلق الهاتف ... ما زال الوقت مبكراً على الإنصراف ... أغمض عينيه مبتسماً ...
أخيراً سأنعم ثانية بعدم الإعتناء .