شاب أو إن شئت قل طفل ، في الثامنة عشر من عمره ، المنيا بصعيد مصر مولده ونشأته ، قابلته فى أحد الوظائف التي أشغلها ، وعندما تحدثت معه قال لي أنه يدرس بدبلوم المدارس الصناعية ، وينوي تكملة دراسته إلي الجامعة ، عمل مع والده عاماً كمبيض محارة ، ولم يجد نفسه فيها رغم إتقانه للصنعة علي حد قوله ، ثم صاحب أولاد عمه بمهنة النجارة المسلحة لثلاثة أعوام حتى أتقنها، وتبين له أنه مهما يعلو فى الصعيد فلن يكون يوماً ذا شأن !!!
قرر أن يأتي إلي القاهرة ليعمل في المكان الذي قابلته فيه ، في مجال الألبان والبقالة ، فأتقن ذلك أفضل ما يكون الإتقان ، حتى أصبح أفضل من كثير ممن سبقوه في هذا المجال ، حتى أنه أصبح مرجع لهم يسألوه عما يصعب عليهم من أعمال !!!
محمد أو كما يلقبه من معه بــ " المعلم ملوخية " مثال لا للطفل ولا للشاب بل للرجل الذي يعتمد عليه ، شعرت أمامه وأنا من يدّعي التعلم بالجهل البين ، فقد أكسبته خبرة العمل لسنوات مهارة وحسن تصرف رغم صغر جسمه وعمره .
المعلم ملوخية ليس واحداً بل حالة لكثير من الشباب والأطفال الذين اضطرتهم ظروف الحياة - أو لم تضطرهم - للعمل في سن مبكر فأكسبهم ذلك خبرة عملية وحياتية خير ألف مرة مما يتعلمه أطفال فى مدارسنا الخاصة لا العامة !!!
كم كنت أتمنى أن يفعل أبي مثلما فعل والد محمد ، لكن كل والد يفعل ما يشعر أنه أفضل لمستقبل ولده ، ولا يمكن لومه أو معاتبته على ذلك فقد اختار أن يعلمني ولا شئ غير التعليم !!!
العلم وخاصة ما يدرس لأبنائنا فى المدارس يمكن أن يحصل فى أى وقت ، لكن الحرف والخبرات إن فات وقتها الصحيح فقلما تحصل بشكلها الصحيح وفائدتها الكاملة ، وهذا ما سأختاره لولدي أن يتعلم أي شئ لأن كل التعليم في بلده يؤدي إلي طريق واحد ، ويتعلم حرفة فيكون رزقه بيد الله ثم بيده ، لا ينتظر ليمن عليه أحد بوظيفة تتحطم عليها آماله وينتهي إليها أحلامه ويدفن معها فكره وإبداعه .
ربما أكون مخطئاً ولكني لا أكون غير أبي وجدي مثل كل الأباء يختارون لأبنائهم ما يظنون أنه أصلح لهم فى دينهم ودنياهم ، وربما يكونوا مخطئون ، أو ما اختاره لولده اليوم لن يكون ذا قيمة بعد عقد أو اثنين ، لكن الله لا يكلف نفساً إلا ما أتاها وما وسعها من جهد ، وحتماًُ سيسامحني ولدي إن أخطأت في حقه كما سامحت أبي وسامح أبي جدي .